تقع قرية "كور" الفلسطينية جنوب شرق طولكرم في الضفه الغربية وتحتضن على ارضها تاريخ فلسطين بأحد عشر معلماً أثرياً وبنيت على تل يرتفع عن سطح البحر بأكثر من 400 متر وأهم هذه المعالم قلعة عسكرية يعود تاريخها إلى مئات السنين.
ويمكن للزائر أن ينعم بنسيم البحر الابيض المتوسط الذي تطل عليه القلعة على بعد بضعة كيلو مترات وتعد قرية "كور" واحدة من سبع قرى تمثل شبكة لأجمل القرى الفلسطينية المطلة على البحر المتوسط، ويعود تاريخ المباني الاثرية في القرية إلى العهد المملوكي والعهد العثماني. اما اهالي المنطقه فيطلقون اسم (حمامة فلسطين البيضاء) على قرية كور لان البحارة على متن سفنهم في البحر المتوسط يستطيعون أن يشاهدوا ابنية القرية وحجارتها البيضاء.
وعن آثار قرية "كور" يحدثنا خالد ابو علي الباحث في الاثار في منطقة شمال الضفة الغربية قائلاً " يمكننا تقسيم المباني الاثرية في كور إلى مبانٍ عثمانية في الجهة الشمالية من القرية ومبانٍ مملوكية في القسم الجنوبي ، وكور القرية الفلسطينية الوحيدة التي تتكون من مجموعة من القصور المزينة بالقباب بنيت قبل 206 اعوام وهي مزخرفة ، وتميزت قلعتها قلعة "الجيايسة" والمعروفة بقلعة كور بتصميمها العسكري.
والمتجول داخل القلعة يدرك ذلك فالطابق السفلي منها يضم سجناً وغرفا للحراس واسطبلات للخيول كما انها تحوي نظاما لتخزين المياه في جدرانها بينما يحتوي الطابق الثاني على الغرف التي يقيم فيها سكان القلعة ولها ادراج طويلة ضيقة ومتعرجة تصل بين اقسام القلعة وطوابقها.
ويقول أبوعلي إن عدد سكان قرية كور اليوم اكثر من (350) نسمة من قبيلة الجيوسي وهم ابناء لستة عشر اخاً وما زالت بعض العائلات في القرية الصغيرة يسكنون بيوت ابائهم واجدادهم الأثرية وينامون في احضان تاريخهم العريق.
وعن السبب وراء حفاظ بيوت كور التاريخية على متانتها بدون تغيرات كبيرة واضحة على هيكل المباني فيقول خالد ابو علي إن قصور القرية بنيت بشكل متين من الناحية العمرانية كما ان الدور التاريخي والجغرافي للقرية قد اثر على بقاء البيوت والقصور بحالة جيدة فقد كانت مركزاً للحكم والسيادة وهي نقطة وصل على طريق التجارة إلى مصر وعدم تعرض المنطقة لكوارث طبيعية ساهم ايضاً ببقاء المباني محافظة على شكلها الاصلي ويؤكد ابو علي ان اهم معلم اثري تحويه قرية كور هو قلعة "الجيايسة" ذات التصميم العسكري كما تحوي القرية العديد من المقامات والاثار التي تعود الى عصور البيزنطيين والرومان.
والقصور في قرية كور تكتسب اهميتها اليوم من ضخامتها والفن المعماري على جدرانها التي تحتوي على الزخارف المنقوشة على الحجر وقطع فخارية ممتزجة باحجار هيكلها وكذلك للقصور نوافذ ضيقة تتميز بها ويقول خبير الاثار ان هذه القصور امتلكها في الماضي شيوخ الجياسة من بني صعب الذين حكموا المنطقه فكل زاوية في هذه القصور تحكي عن التاريخ ، اما في الوقت الحاضر فقد هجر العديد من اصحاب هذه القرية قصورهم وانتقلوا للعيش في منازل حديثة وصغيرة ، ولكن بعض العائلات من المقتدرين الذين رجعوا ورمموا هذه المباني وعادوا للسكن فيها فمصاريف الترميم عالية جدا ومكلفة.
وشهدت قصور قرية "كور" حقباً تاريخية عصيبة فهي اليوم تعاني من التآكل في حجارتها بفعل عوامل الزمن المختلفة فبعض هذه القصور سقطت واجهاتها بشكل كامل وبعضها آيل للسقوط وهنا يتطلع اهالي القرية إلى مد يد العون لتاريخ قريتهم بالحفاظ عليه وحمايته وترميمه للحفاظ على تاريخ عريق ما زالت له فوق اراضي قرية كور اثار تعبق بأريج التاريخ والعصورالماضية.
مقالات
هذه القصور والقلاع الضخمة التي تركتها مشيخات قرى الكراسي الإقطاعية والتي بلغت 27 قرية في مختلف مناحي فلسطين، إضافة لقصور ضخمة في بعض المدن للحكام والولاة في القرون الماضية وخاصة مرحلة الحكم العثماني وفترة المماليك، جميعها شكلت مرحلة مميزة في التاريخ الفلسطيني والإرث المعماري، وكلمة قرى الكراسي مستمدة من كلمة "كرسي" بالآرامية وتعني العرش أو مقعد الحاكم، وكما أشرت في الحلقات الماضية فشيوخ قرى الكراسي كانوا معينين من الدولة العثمانية كملتزمي جباية الضرائب، فتمنحهم العزوة والمنعة والحماية وتسلم كل شيخ مجموعة من القرى تحت امرته وتحت حكم مشيخته، وعليه بالمقابل أن يؤمن لخزينة الدولة النسبة المطلوبة، مما سمح للشيوخ بالثراء الفاحش بعد تحولهم من جباة ضرائب إلى إقطاعيين، وهذا عكس نفسه على قلاعهم وقصورهم في فلسطين، وسمح لهم بتقوية أنفسهم بهذه القصور والقلاع في مواجهة تعديات الشيوخ الآخرين، وتاريخ مشيخة كور ورد في عدة مصادر تاريخية وأهمها المؤرخ إحسان النمر في كتابه الضخم من اربعة مجلدات: تاريخ جبل نابلس والبلقاء حيث تحدث عن مشيخة كور في الجزء الأول والثاني من المجلدات الأربعة وإن كان الكلام مختصرا، وفي أكثر من مصدر ورد عن تعيين الشيخ حرب شيخا لقرى الصعبيات والذي حسب تلك المصادر كان قائدا في قوات المماليك التابعة للدولة العثمانية وأصبح ملتزما للضرائب فيها والبالغة بما فيها كور 25 قرية وبلدة تمتد حتى الساحل الفلسطيني، وقد كان الصراع على السيطرة مع شيوخ آل طوقان في نابلس بسبب التماس بين المناطق، إضافة لعدة مراجع منها موسوعة بلادنا فلسطين للمؤرخ مصطفى الدباغ وهو قد اشار بالهامش ان اسم كور فخذ من قبيلة طي التي سكنتها في أزمان سحيقة، وهذا يخالف كل من نسبوا الاسم لآلة النفخ عند الحدادين، وكتاب (قاموس العشائر في الأردن وفلسطين) لمؤلفه الباحث حنا عماري، والعديد من المصادر الأخرى ومعظمها مقالات استندت للروايات المحكية والتاريخ الشفوي وهذا لا يكفي بالتأكيد، مع الإشارة أن معظم هذه المراجع استندت بشكل أو آخر لمؤلفات المؤرخ إحسان النمر، وأعتقد انه من المهم اعادة دراسة تاريخ المنطقة بالاستناد للوثائق العثمانية التي أصبحت متاحة في تركيا للباحثين والمؤرخين،.
على مدخل قصر الشيخ المؤسس لهذه القصور وعلى اعلى البوابة حجر منقوش عليه اربعة ابيات شعرية تشيد بمن بنى هذا الصرح وتقول هذه الأبيات الشعرية: " دار السعادةَ أشرقت أنوارها من أمنها ينجو من الأقدارِ، بالله يحرسُ من قد شادها بالعز والتأيد والأنوار، هو يوسف الجيوسي حاتم عصره كم في الورى شاعت له الإخبارِ، قد حاز أجناس الكمالِ مع السخا مثل شوارقِ الأنوارِ، تاريخها عز سرورٍ كاملٌ لكم الهنا يا ساكنين الدارِ"، مؤرخ تحت الأبيات بتاريخ 1756م كما قرأت ومع وجود مسح للرقم فممكن ان يكون 1771م كما اشارت بعض المصادر، والنقش على حجر مزروع بالجدار على عمق عدة سنتمرات وبجواره على الجانبين نقش على حجرين صورة أسود كرمز للقوة للشيخ يوسف وسيطرته، وبوابة ضخمة قوسية من الأعلى، وبوابة الدخول كما القصور لكبار القوم من حكام ومشايخ في هذه الإقطاعيات التي عرفت بالعهد العثماني كانت محصنة وتسمح للفرسان بالدخول على ظهور الخيول للساحة الداخلية، واسطبلات الخيل دوما كانت تكون في الداخل، وطبعا بكل أسف أن البوابة المصفحة الأصلية لم يعد لها وجود وتلك البوابات كانت من الخشب المتين ومصفحة بالحديد ولها بوابة اصغر لدخول الراجلين تسمى "الخويخة"، وهذه الخويخات كانت ترتفع عن الأرض وتكون صغيرة الحجم مما يجبر الداخل على الانحناء، وهذه بعض من اساليب الحماية والدفاع في حالة هجوم يؤدي لاقتحام الخويخة فيتمكن المتحصنون بالداخل خلف البوبة من قتل من يدخل، اضافة لوجود عوارض معدنية ضخمة تعطي للبوابة قدرة دفاعية أكبر، وهذه العوارض ترتبط بحلقات معدنية بحجارة جانبي البوابة.
والبوابة جزء من جدار قوسي كبير ولكنها تدخل في هذا الجدار السميك جدا حوالي 35 سم من الداخل ومن الخارج، والحجارة اعلاها منقوش عليها الكثير من النقوش الرمزية الدالة على المكانة الاجتماعية والرسمية لصاحب القصر، والجدار المحيط بالقصر مرتفع عدة امتار ومن حجارة كبيرة وسمك كبير يحصن الموقع جيدا، وفوق البوابة "علية" لها نافذتان تسمحان بكشف من يأتي باتجاه القصر من البعيد، وكما نظام البناء المعتاد اعلى النوافذ على شكل أقواس ولكن بجوارهما من الجهتين بروز حجري للخارج واعتقد انه كان بها فتحات صغيرة واضح اثرها وإن اغلقت مع الزمن، وهذه الفتحات كانت تستخدم للدفاع عن القصر اذا اقترب أحد من الخصوم من بوابة القصر، وفي معظم القلاع والقصور الضخمة في جولاتي في فلسطين وخارجها كنت اشاهد هذه الأساليب الدفاعية، وفي السور المحيط بالقصر من الواجهة الأمامية نجد الفوهات الدفاعية في أعلى السور، وما ان عبرنا البوابة الى ساحة القصر حتى كنت اقف اتأمل ما اراه وأتخيل كيف كان، فمساحة القصر التراثي تبلغ 100×50 مترا، وفيه ساحة كبيرة تضم العديد من آبار المياه التي كانت تعتمد على الأمطار وتلبي حاجات من يسكنون القصر.
القصر مبني على نظام العقود المتصالبة ولكن معظم هذه القصور كان يعلوها قباب اضافة للمحدبات التي تصنعها العقود المتصالبة وتمنع تجمع الأمطار على الأسطح، ولعل اضافة القباب فوق القصور لتعطي هيبة أكبر لها فهي اشبه بقباب المساجد، وحول الساحة وخاصة على اليمين واليسار وفي الواجهة امام الداخل للقصر بيوتات السكن والاستخدامات ومقابلها اسطبلات الخيول، وفي جانبي القصر الضخم وجزء من الواجهة يوجد طابق ثاني في البناء، والأغلب انها كانت للنساء وخاصة في الزاوية البعيدة عن البوابة، والشرفات امامها تحجبها جدران مزخرفة بالفخاريات فتحجب من فيها عن الجهة المقابلة، وبكل اسف رأيت ان الجزء الفارغ والفاصل بين الجناحين بدأ اضافة بناء من الطوب فيه، مما سيشوه القصر ومشهده التراثي، وفي الطابق الأسفل البناء على شكل اقسام منفصلة عن بعضها البعض بالجدران الداخلية، ولكل قسم بوابة قوسية كبيرة وفيه باحة يليها جدار به البوابة القوسية ونافذة، ولكن قام البعض ممن يسكنون في القصر من الورثة ببناء جدر ليكتسبوا المساحة في الباحة من أجل توسعة سكنهم، ولكن هذا شوه تماما المشهد الحقيقي للقصر وخاصة حين يكون الجدار المضاف بالاسمنت أو الطوب، اضافة لبناء بعض الغرف الاسمنتية او من الطوب بجوار السور الأمامي من الداخل، وهذا شوه المشهد العام للساحة وللقصر فيظهر أنه ليس هناك رقيب ولا حسيب على ما يجري بالقصر ويفقده بعض من رونقه وذاكرته.